أيمن شاكر يكتب : استمع إلى الصمت من حولك ، فقد يكون الصرخة الأكثر صدقاً والأكثر حاجة إلى من يسمعها ، ففي ذلك الصمت ، كلام لا ينتهي ...

 



بقلم الكاتب الصحفى أيمن شاكر 

رئيس قسم الأدب ✍🏻 


" في سكوتهم كلام " ... جملة بسيطة تختزل عالماً من التعقيد الإنساني ، وتكشف عن بحر هائج تحت سطح ماءٍ ساكنٍ ظاهرياً. فهؤلاء الذين نراهم صامتين ، قليلي الطلبات ، صبورين على الأعباء ، نادراً ما تشقى آذاننا من شكواهم ، هم في الحقيقة ينطقون بأعلى الأصوات ، لكن بلغة لا يفك رموزها إلا من يملك أذناً للقلوب وروحاً تستطيع سماع الهمس الذي يعلو فوق الضجيج. هم لا يتحدثون بالكلمات ، بل يتحدثون بثقل وجودهم، بظلال الحزن في أعينهم، بابتسامة لا تصل إلى العمق، وبصبرٍ يشبه الجبال الراسيات. كما أدرك الحكيم ( شمس الدين التبريزي ) بعمق بصيرته : "الصمت أيضاً له صوت ، لكنه بحاجة إلى روح تفهمه " فهذا الصوت الخافت ، الحميم ، العميق ، يحتاج إلى مستمع من نوع خاص ، مستعد لسماع ما وراء السطور ، ما بين السطور ، وما تحت السطور.


هذا الصمت المتعدد الأوجه ليس نقصاً في الكلام ، بل هو لغة بحد ذاتها ، ولكنه لغة ذات لهجات مختلفة.

🩸فهناك صمت { الإرهاق } ، صمت من استنفدت كلماته ، من تكسرت أحلامه تحت وطأة الواقع ، فلم يعد يملك طاقةً حتى للشكوى. صمت من يشبه بقايا معركة طاحنة ، كل ما تبقى هو الدخان والركام.

🩸وهناك صمت ( اليأس ) ، صمت من أيقن أن الكلمات لا تغيّر واقعاً مراً ، ولا تصلح عطباً ، ولا تشفي جرحاً نازفاً. إنه صمت الاستسلام للقدر ، أو لقسوة الظروف ، حيث تصبح الكلمات كالرمال في مهب الريح ، لا أثر لها ولا فائدة منها. وهو صمت مرير ، يشبه غروب شمس لا يُتوقع لها شروق.

🩸وهناك صمت ( التحمل والكتمان ) ، صمت الأقوياء بالرغم من أنف الألم، صمت من يرفضون أن يكونوا عبئاً على أحد، أو ينقلوا همومهم إلى قلوب غير قلوبهم. صمت من تعودوا أن يحملوا العالم على أكتافهم دون أن يتأوهوا، خوفاً من إزعاج الآخرين، أو خوفاً من أن يُنظر إليهم على أنهم ضعفاء. إنه صمت النبلاء المتواري، صمت من يختارون المعاناة في صمت على إثقال كاهل من حولهم.


💧هذا التنوع في دوافع الصمت يذكرنا بحقيقة إنسانية جوهرية : كل إنسان يحمل حمله الخاص . ما يبدو سهلاً هيناً على أحدنا ، قد يكون جبلاً يعجز آخر عن تسلقه. ما نراه هدوءاً على وجه إنسان ، قد يكون غطاءً لمعركة داخلية ضارية تدور رحاها في أعماق روحه. معركة بين الألم والأمل ، بين اليأس والصبر ، بين الرغبة في الصراخ والخوف من العواقب ، بين الحاجة للاعتراف بالضعف والرغبة في الظهور بالقوة. إنها معارك يومية ، خفية ، لا تُشهر سيوفها ولا تُسمع صليلها ، لكن آثارها تمزق النسيج الداخلي للإنسان.

💧لذلك ، فالحكم على الإنسان من ظاهر هدوئه وصمته هو أقسى أنواع الجهل وأخطر أنواع الظلم .

إنه كمن يحكم على كتاب من غلافه ، دون أن يقرأ سطوره أو يفهم فصوله .


💧ذلك الرجل الهادئ في زاوية المكتب ، الذي لا يتذمر أبداً ، قد يكون يحمل همّاً عائلياً ينهش قلبه. وتلك المرأة الصبورة التي تبتسم دائماً ، قد تخفي وراء ابتسامتها حزناً قديماً أو خوفاً مزمناً. والشاب القليل الكلام ، الذي تراه "مستقراً" ، قد تكون روحه ساحة حرب بين الطموحات والإمكانيات ، أو بين الضغوط والمبادئ .

لمجرد أن أحدهم لا يصرخ بألمه ، لا يعني أنه لا يتألم. ولمجرد أنه لا يطلب المساعدة ، لا يعني أنه لا يحتاجها. ولمجرد أن صوته لا يرتفع ، لا يعني أن قلبه لا ينزف .

إن افتراض أن "بالهم رايق" لمجرد أنهم لا يعبرون عن ضجيجهم الداخلي علناً، هو افتراض سطحي وجارح ، ينم عن قصور في الفهم والتعاطف الإنساني.


لذا ، إياك ثم إياك أن تتمنى حياة أحد لمجرد أنك ترى ظاهرها هادئاً. فما تراه من السطح قد يكون خداعاً ، وما تخاله راحة قد يكون قبواً من المعاناة الصامتة. وكن حذراً في أحكامك ، فلا تتهم أحداً بعدم المعاناة أو الهم لمجرد صمته. تذكر أن الناس كلها بلا استثناء { فيهم اللي مكفيهم } ، فلكل إنسان قصته ، معركته ، عبئه الذي يعاني تحت ثقله ، وإن اختلفت الأشكال والأوزان.


فلا تكن أنت والحياة على الناس ، لا تكن مصدراً إضافياً للضغط أو الحكم غير العادل. بدلاً من ذلك ، حاول أن تكون تلك الروح التي تفهم صوت الصمت. كن حاضراً بقلبك ، كن لطيفاً في تعاملك ، كن مستعداً للإصغاء إذا ما قرر أحدهم أن يثق بك ويفتح نافذةً صغيرةً على عالمه الداخلي. لا تُجبر الصامتين على الكلام ، ولكن كن ميناءً آمناً إذا ما قرروا الإبحار بكلماتهم نحو شاطئك. تعلم أن ترى ما وراء الهدوء الظاهر ، أن تلاحظ نظرة التعب، أو غياب الابتسامة الحقيقية ، أو الانكفاء غير المعتاد. أحياناً ، مجرد سؤال لطيف :

" هل أنت بخير ؟ " أو مجرد وجود صامت داعم ، يمكن أن يكون شريان حياة لمن يغرق في صمتهم.


💧فيا من تقرأ هذه السطور ، توقف لحظة. انظر حولك. انظر إلى الوجوه الهادئة ، إلى العيون التي تبدو غائبة ، إلى الأجساد التي تحمل نفسها بصبر ظاهري. تذكر أن "ما في القلب لا يعلمه إلا الله" . لكنك ، بإنسانيتك وتعاطفك ، يمكن أن تكون قريباً من تلك القلوب الصامتة دون اقتحام ، داعماً دون تدخل ، حاضراً دون ثقل. استمع إلى الصمت من حولك ، فقد يكون الصرخة الأكثر صدقاً والأكثر حاجة إلى من يسمعها. ففي ذلك الصمت ، كلام لا ينتهي ... كلام يحتاج فقط إلى قلب يسمع ، وروح تفهم ، وعين ترى ما وراء السكون .


سنلتقى إن كان فى العمر بقيه 

إرسال تعليق

أحدث أقدم